فصل: َسُئِلَ عن قناة سبيل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصـل

وقال في رواية بكر بن محمد ـ فيمن وصى بفرس وسرج ولجام مفضض ـ ‏:‏ يوقف في سبيل اللّه حبيس، فهو على ما وقف وأوصى، وإن بيع الفضة من السرج واللجام وجعل في وقف مثله فهو أحب إلى؛ لأن الفضة لا ينتفع بها، ولعله يشتري بتلك الفضة سرج ولجام، فيكون أنفع للمسلمين‏.‏ فقيل له‏:‏ تباع الفضة، وتصرف في نفقة الفرس‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ وهذا مما ذكره الخلال وصاحبه أبو بكر عبد العزيز والقاضي وأبو محمد المقدسي وغيرهم‏.‏ فقد صرح أحمد بأن الفرس واللجام المفضض هو على ما وقف وأوصى، وأنه إن بيعت الفضة من السرح واللجام وجعل في وقف مثله فهو أحب إليه‏.‏ قال‏:‏ لأن الفضة لا ينتفع بها، ولعله يشتري بتلك الفضة سرج ولجام فيكون أنفع للمسلمين‏.‏ فخير بين إبقاء الحلية الموقوفة وقفا وبين/أن تباع ويشتري بثمنها ما هو أنفع للمسلمين من سرج ولجام‏.‏ وهذا يبين أفضل الأمرين‏.‏

وقوله‏:‏ لأن الفضة لا ينتفع بها‏.‏ لم يرد به أنه لا منفعة بها بحال؛ فإن التحلي منفعة مباحة، ويجوز استئجار من يصوغ الحلية المباحة، ولو أتلف متلف الصياغة المباحة ضمن ذلك، وقد نص أحمد على ذلك، ولو لم يكن منفعة لم يصح الاستئجار عليها، ولا ضمنت بالإتلاف، بل أراد نفي كمال المنفعة، كما يقال هذا لا ينفع‏.‏ يراد أنه لا ينفع منفعة تامة‏.‏ ويدل على ذلك قوله‏:‏ ويشتري بثمنها ما هو أنفع للمسلمين‏.‏ فدل على أن كلاهما سائغ والثاني أنفع؛ ولأنه لو لم تكن فيه منفعة بحال لم يصح وقفه؛ فإن وقف ما لا ينتفع به لا يجوز، وهذا يبين أن أفضل الأمرين أن يباع الوقف، ويبدل بما هو أنفع منه للموقوف عليه، وأن ذلك أفضل من إبقائه وقفا؛ لأنه أصلح للموقوف عليه، ولم يوجب الإبدال‏.‏

وقوله‏:‏ فهو على ما وقف، وأوصى‏.‏ يقتضي أن هذا حكم ما وقفه وما وصى بوقفه؛ وإن كانت المسألة التي سئل عنها هي فيمن وصى بوقفه، ومعلوم أنه يجب اتباع شرطه فيما وصى بوقفه؛ كما يجب فيما وقفه، كما يجب اتباع كلامه فيما وصى بعتقه، كما يجب ذلك فيما أعتقه؛ وأنه لا يجوز أن يوقف ويعتق غير ما أوصى بوقفه وعتقه ، كما لا يجوز أن يجعل الموقوف والمعتق غير ما وقفه وأعتقه‏.‏ فجواز الإبدال في أحدهما كجوازه في الآخر‏.‏ وقد علل استحبابه للإبدال بمجرد كون البدل أنفع للمسلمين من الزينة‏.‏

/ونظير هذا إذا وقف ما هو مزين بنقوش ورخام وخشب وغير ذلك مما يكون ثمنه مرتفعاً لزينته؛ فإنه يباع، ويشتري بثمنه ما هو أنفع لأهل الوقف‏.‏ فالاعتبار بما هو أنفع لأهل الوقف، وقد تكون تلك الفضة أنفع لمشتريها، وهذا لأن انتفاع المالك غير انتفاع أهل الوقف؛ ولهذا يباع الوقف الخرب لتعطل نفعه‏.‏ ومعلوم أن ما لا نفع فيه لا يجوز بيعه، لكن تعطل نفعه على أهل الوقف، ولم يتعطل على المالك؛ لأن أهل الوقف مقصودهم الاستغلال أو السكني‏.‏ وهذا يتعذر في الخراب، والمالك يشتريه فيعمره بماله‏.‏

وقد اختلف مذهب أحمد في مثل هذه الحلية، على قولين، كحلية الخوذة والجوشن، وحمائل السيف، ونحو ذلك من لباس الجهاد؛ فإن لباس خيل الجهاد كلباس المجاهدين‏.‏ وهذه الرواية تدل على جواز تحلية لباس الخيل بالفضة؛ كالسرج واللجام؛ فإنه جوز وقف ذلك‏.‏ وجعل بيعه وصرف ثمنه في وقف مثله أحب إليه، ولو لم يبح ذلك لم يخير بين هذا وهذا‏.‏ وقال القاضي في ‏[‏المجرد‏]‏ ظاهر هذا أنه أبطل الوقف في الفضة التي على اللجام والسرج؛ لأن الانتفاع بذلك محرم، وليس كذلك الحلي الذي استعماله مباح، وأجاز صرف ذلك في جنس ما وقفه مـن السروج واللجم، ومنع من صرفه في نفقة الفرس؛ لأنه ليس من جنس الوقف‏.‏

والقاضي بني هذا على أن هذه الحلية محرمة، وأنه إذا وقف ما يحرم الانتفاع به فإنه يباع ويشتري به ما يباح الانتفاع به‏.‏ فيوقف على تلك الجهة‏.‏ ومعلوم أنه لولا أن مقتضي عقد الوقف جواز الإبدال للمصلحة لم يجز هذا، كما أنه في البيع/والنكاح لما لم يكن مقتضي العقد جواز الإبدال لم يصح بيع ما لا يحل الانتفاع به‏.‏ ولا نكاح من يحرم وطؤها‏.‏ وهذا يشبه ما لو أهدي ما لا يجوز أن يكون هديا؛ فإنه يشتري بثمنه ما يكون هديا‏.‏ وكذلك في الأضحية‏.‏

وكلام أحمد يدل على الطريقة الأولى، لا على الثانية‏.‏ وهي طريقة أبي محمد وغيره من أصحاب أحمد، قال أبو محمد‏:‏ أباح أحمد أن يشتري بفضـة السرج واللجام سـرجا ولجاما؛ لأنه صرف لهما في جنس ما كانت عليه، حيث لم ينتفع بهما فيه‏.‏ فأشبه الفرس الحبيس إذا عطب فلم ينتفع به في الجهاد جاز بيعه وصرف ثمنه في مثله‏.‏ قال‏:‏ ولم يجز إنفاقها على الفرس، لأنه صرف لها إلى غير جهتها‏.‏

وأبو محمد جعل ذلك من باب تعطل النفع بالكلية، كعطب الفرس، وخراب الوقف؛ بناء على أصله؛ فإنه لا يجوز بيعه إلا إذا تعطل نفعه بالكلية، كما تقدم، ويدل على أن وقف الحلية صحيح، وهـو قول الخرقي والقاضي، وغيرهما‏.‏ والقاضي يجعل المذهب قولا واحداً في صحة وقفه‏.‏

وأما أبو الخطاب وغيره فيجعلون في المسألة خلافا، بل ويذكرون النصوص أنه لا يصح‏.‏ بحسب ما بلغهم من نصه‏.‏ قال القاضي‏:‏ فإن وقف الحلي على الإعارة واللبس‏؟‏ فقال في رواية الأثرم، وحنبل‏:‏ لا يصح، وأنكر الحديث الذي يروي عن أم سلمة في وقفه‏.‏ قال القاضي‏:‏ وظاهر ما نقله الخرقي جواز وقفه؛ لأنه يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه‏.‏ وقوله‏:‏ لا يصح، يعني‏:‏ لا يصح الحديث/فيه، ولم يقصد لا يصح الوقف فيه‏.‏ وقال أبو الخطاب‏:‏ وأما وقف الحلي على الإعارة واللبس فجائز على ظاهر ما نقله الخرقي‏.‏ ونقل عنه الأثرم وحنبل‏:‏ أنه لا يصح‏.‏

وتجويزه لوقف السرج واللجام المفضض يوافق ما ذكره الخرقي، لكن إبداله بما هو أنفع لأهل الوقف أفضل عنده أن يشتري بالحلية سرج ولجام‏.‏

 فصـل

ونصوص أحمد في غير موضع واختيار جمهور أصحابه جواز إبدال ‏[‏الهدي، والأضحية‏]‏ بخير منها‏.‏ قال أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتري الأضحية يسمنها للأضحي‏؟‏ يبدلها بما هو خير منها، لا يبدلها بما هو دونها‏.‏ فقيل له‏:‏ فإن أبدلها بما هو خير منها يبيعها‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال القاضي‏:‏ وقد أطلق القول في رواية صالح وابن منصور وعبد اللّه بجواز أن تبدل الأضحية بما هو خير منها‏.‏ قال‏:‏ ورأيت في مسائل الفضل بن زياد‏:‏ إذا سماها لا يبيعها إلا لمن يريد أن يضحي بها‏.‏

وهاتان الروايتان عنه كالروايتين عنه في المسجد‏:‏ هل يباع أو تنقل آلته لخير منه ‏؟‏ كذلك هنا؛ منع في إحدى الروايتين أن يأخذ عنها بدلا / إلا إذا كانت يضحي بها؛ لتعلق حرمة التضحية بعينها‏.‏ وقال الخرقي‏:‏ ويجوز أن تبدل الأضحية إذا أوجبها بخير منها‏.‏ وقال القاضي أبو يعلى في ‏:‏ ‏[‏التعليق‏]‏ إذا أوجب بدنة جاز بيعها، وعليه بدنة مكانها؛ فإن لم يوجب مكانها حتى زادت في بدن أو شعر أو ولدت كان عليه مثلها زائدة ومثل ولدها، ولو أوجب مكانها قبل الزيادة والولد لم يكن عليه شيء من الزيادة‏.‏

ولم أعلم في أصحاب أحمد من خالف في هذا، إلا أبا الخطاب؛ فإنه اختار أنه لا يجوز إبدالها‏.‏ وقال‏:‏ إذا نذر أضحية وعينها زال ملكه عنها، ولم يجز أن يتصرف فيها ببيع ولا إبدال، وكذلك إذا نذر عتق عبد معين أو دراهم معينة وقال هذا قياس المذهب عندي؛ لأن التعيين يجري مجري النص في النذر الذي لا يلحقه الفسخ؛ لأن أحمد قد نص في رواية صالح وإبراهيم بن الحارث فيمن نذر أضحية بعينها فأعورت أو أصابها عيب، تجزيه، ولو كانت في ملكه لم تجزه، ووجبت عليه صحيحة، كما لو نذر أضحية مطلقة‏.‏ قال‏:‏ وكذلك نص في رواية حنبل في الهدي إذا عطب في الحرم، قد أجزأ عنه، ولو كان في ملكه لم يجزه، ووجب بدله‏.‏ وغير ذلك من المسائل‏.‏ فدل على ما قلت‏.‏

وأبو الخطاب بنى ذلك على أن ملكه زال عنها، فلا يجوز الإبدال بعد زوال الملك، وهو قول أصحاب مالك‏.‏ والشافعي وأبو حنيفة يجوزون إبدالها بخير منها‏.‏ وبني أصحابه ذلك هم والقاضي أبو يعلى وموافقوه على أن ملكه لم يزل عنها‏.‏ والنزاع بين الطائفتين في هذا الأصل‏.‏ وأحمد وفقهاء أصحابه/لا يحتاجون أن يبنوا على هذا الأصل‏.‏ وقال أبو الخطاب‏:‏ هذا هو القياس في النذر‏:‏ أنه إذا نذر الصلاة في مسجد بعينه لزمه، وإنما تركناه للشرع، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏)‏‏.‏ فقيل له‏:‏ فلو نذر الصلاة في المسجد الأقصى جاز له الصلاة في المسجد الحرام‏؟‏ فقال‏:‏ إن لم يصح الخبر بذلك لم نسلم على هذه الرواية‏.‏

وهذا الذي قاله أبو الخطاب كما أنه خلاف نصوص أحمد وجمهور أصحابه، فهو خلاف سائر أصوله؛ فإن جواز الإبدال عند أحمد لا يفتقر إلى كون ذلك في ملكه، بل ولا تأثير لذلك في جواز الإبدال؛ فإنه لو نذر عتق عبد فعينه لم يجز إبداله بلا ريب، وإن لم يخرج عن ملكه، بل ويقول‏:‏ خرجت الأضحية عن ملكه، ويجوز إبدالها بخير منها؛ كما نقول مثل ذلك في المساجد، وكما نقول بجواز الإبدال في المنذورات؛ لأن الذبح عبادة للّه، وذبح الأفضل أحب إلى اللّه تعالى، فكان هذا كإبدال المنذور بخير منه، وذلك خير لأهل الحرم، بخلاف العتق؛ فإن مستحقه هو العبد فبطل حقه بالإبدال‏.‏

والنزاع في كون الأضحية المعينة بالنذر ثابتة على ملكه أو خارجة عن ملكه إلى اللّه يشبه النزاع في الوقف على الجهة العامة‏.‏ والمشهور في مذهب أحمـد والجمهور في ذلك أنها ملك للّه‏.‏ وقد يقال‏:‏ لجماعة المسلمين، والمتصرف فيه بالتحويل هم المسلمون المستحقون للانتفاع به، فيتصرفون فيه بحكم الولاية، لا بحكم الملك/ وكذلك الهدي والأضحية المعين بالنذر إذا قيل‏:‏ إنه يخرج عن ملك صاحبه؛ فإن له ولاية التصرف فيه بالذبح والتفريق، فكذلك له ولاية التصرف فيه بالإبدال، كما لو أتلفه متلف فإنه كان يأخذ ثمنه يشتري به بدله، وإن لم يكن مالكا له‏.‏ فكونه خارجا عن ملكه لا يناقض جواز تصرفه فيه بولاية شرعية‏.‏

وقول القائل‏:‏ يملكه صاحبه أو لا يملكه‏.‏ في ذلك وفي نظائره‏؟‏ كقوله‏:‏ العبد يملك أو لا يملك، وأهل الحرب هل يملكون أموال المسلمين أو لا يملكونها، والموقوف عليه هل يملك الوقف أو لا يملكه‏؟‏ إنما نشأ فيها النزاع بسبب ظن كون الملك جنسا واحداً تتماثل أنواعه، وليس الأمر كذلك، بل الملك هو القدرة الشرعية، والشارع قد يأذن للإنسان في تصرف دون تصرف، ويملكه ذلك التصرف دون هذا، فيكون مالكا ملكا خاصا، ليس هو مثل ملك الوارث، ولا مـلك الوارث كملك المشتري مـن كـل وجـه، بـل قـد يفترقان‏.‏ وكذلك ملك النهب والغنائم ونحوهما قد خالف ملك المبتاع والوارث‏.‏

فقول القائل‏:‏ إنه يملك الأضحية المعينة‏.‏ إن أراد أنه يملكها كما يملك المبتاع؛ بحيث يبيعها ويأخذ ثمنها لنفسه ويهبها لمن يشاء وتورث عنه ملكا فليس الأمر كذلك‏.‏ وكذلك إن أراد بخروجها عن ملكه أنه انقطع تصرفه فيها كما ينقطع التصرف بالرق أو البيع فليس الأمر كذلك، بل له فيها ملك خاص، وهو ملكه أن يحفظها، ويذبحها، ويقسم لحمها، ويهدي، ويتصدق، ويأكل‏.‏ وهذا الذي يملكه من أضحيته لا يملكه من أضحيته غيره‏.‏

/ فصـل

والدليل على ذلك وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ ما ثبت في الصحيحين عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين‏:‏ بابا يدخل الناس منه، وبابا يخرجون منه‏)‏‏.‏ ومعلوم أن الكعبة أفضل وقف على وجه الأرض، ولو كان تغييرها وإبدالها بما وصفه صلى الله عليه وسلم واجبا لم يتركه، فعلم أنه كان جائزا، وأنه كان أصلح لولا ما ذكره من حدثان عهد قريش بالإسلام‏.‏ وهذا فيه تبديل بنائها ببناء آخر‏.‏ فعلم أن هذا جائز في الجملة‏؟‏ وتبديل التاليف بتاليف آخر هو أحد أنواع الإبدال‏.‏

وأيضا، فقد ثبت أن عمر وعثمان غيرا بناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ أما عمر فبناه بنظير بنائه الأول باللبن والجذوع، وأما عثمان فبناه بمادة أعلا من تلك كالساج‏.‏ وبكل حال فاللبن والجذوع التي كانت وقفا أبدلها الخلفاء الراشدون بغيرها‏.‏ وهذا من أعظم ما يشتهر من القضايا ولم ينكره منكر‏.‏ ولا فرق بين إبدال البناء ببناء، وإبدال العرصة بعرصة‏:‏ إذا اقتضت المصلحة ذلك؛ ولهذا أبدل عمر بن الخطاب مسجد الكوفة بمسجد آخر، أبدل نفس العرصة،/وصارت العرصة الأولي سوقا للتمارين‏.‏ فصارت العرصة سوقا بعد أن كانت مسجداً‏.‏ وهذا أبلغ ما يكون في إبدال الوقف للمصلحة‏.‏ وأيضا، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جوز إبدال المنذور بخير منه‏.‏ ففي المسند ـ مسند أحمد ـ وسنن أبي داود، قال أبو داود‏:‏ ثنا موسي بن إسماعيل، ثنا حماد ـ يعني ابن سلمة ـ أنا حبيب المعلم، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد اللّه، أن رجلا قام يوم الفتح فقال‏:‏ يا رسول اللّه، إني نذرت إن فتح اللّه ـ عز وجل ـ عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، قال أبو سلمة‏:‏ مرة ركعتين، قال‏:‏ ‏(‏صل ها هنا‏)‏، ثم أعاد عليه، فقال‏:‏ ‏(‏صل ها هنا‏)‏ ، ثم أعاد عليه؛ قال‏:‏ ‏(‏فشأنك إذاً‏)‏‏.‏ قال أبو داود‏:‏ وروي نحوه عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولهذا في السنن طريق ثالث رواه أحمد وأبو داود، عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو داود‏:‏ ثنا بن خالد‏.‏ ثنا أبو عاصم، وثنا عباس العمبري، ثنا روح، عن ابن جريج، أنا يوسف بن الحكم بن أبي سفيان، أنه سمع حفص بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر، زاد فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي بعث محمدا بالحق لو صليت ها هنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس‏)‏‏.‏ قال أبو دواد‏:‏ رواه الأنصار، عن ابن جريح‏.‏ قال حفص بن عمر بن حنة‏:‏ وقال عمر‏:‏ أخبراه عن عبد الرحمن بن عوف، عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

/وفي المسـند وصحيح مسلم عـن ابن عباس ـ رضي اللّه عنهما ـ أن امرأة شكت شكوى، فقالت‏:‏ إن شفاني اللّه فلأخرجن فلأصلين في بيت المقدس، فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج، فجاءت ميمونة تسلم عليها، وأخبرتها بذلك، فقالت‏:‏ اجلسي وكلي ما صنعت، وصلى في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ فإني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة‏)‏‏.‏

وهذا مذهب عامة العلماء كالشافعي ، وأحمد بن حنبل، وغيرهما، وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وابن المنذر، وغيرهم‏:‏ قالوا‏:‏ إذا نذر أن يصلي في بيت المقدس أجزأه الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن نذر الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أجزأه الصلاة في المسجد الحرام، وإن نذر الصلاة في المسجد الحرام لم تجزه الصلاة في غيره عند الأكثرين، وهو مذهب ابن المسيب، ومالك، والشافعي في أصح قوليه، ومذهب أبي يوسف صاحب أبي حنيفة‏.‏ وحكي عن أبي حنيفة‏:‏ لا يتعين شيء للصلاة، بخلاف ما لو نذر أن يأتي المسجد الحرام لحج أو عمرة؛ فإن هذا يلزمه بلا نزاع‏.‏ وأبو حنيفة بني هذا على أصله؛ وهو أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع‏.‏

وأما مالك وأحمد والشافعي ـ في ظاهر مذهبه ـ فيوجبون بالنذر ما كان طاعة، وإن لم يكن جنسه واجبا بالشرع، كما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة/ـ رضي اللّه عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللّه فلا يعصه‏)‏‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏صل ها هنا‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لو صليت هنا لأجزأ عنك صلاة ـ أو كل صلاة ـ في بيت المقدس‏)‏، فخص الأمر بالصلاة في المسجد الحرام، ولم يقل‏:‏ صل حيث شئت، وقال‏:‏ ‏(‏لو صليت ها هنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس‏)‏، فجعل المجزي عنه الصلاة في المسجد الأفضل، لا في كل مكان‏.‏ فدل هذا على أنه لم ينقله إلى البدل إلا لفضله، لا لكون الصلاة لم تتعين‏.‏

وقد ثبت عنه في الصحاح تفضيل مسجده والمسجد الحرام على المسجد الأقصى، وفي السنن والمسند تفضيل المسجد الحرام على مسجده، وثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا‏)‏، وفي لفظ لمسلم‏:‏ ‏(‏إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد‏)‏ فدل ذلك على أن السفر إلى هذه الثلاثة بِرٌ وقربة وعمل صالح؛ ولهذا أذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب إلى الأقصى، مع أمره له أن يصلي في المسجد الحرام، وإخباره أن ذلك يجزيه فدل ذلك على أنه أمر ندب، وأنه مخير بين أن يفعل عين المنذور، وإن يفعل ما هو أفضل منه‏.‏

ومعلوم أن النذر يوجب عليه ما نذره للّه تعالى من الطاعة؛ لقوله‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطيع اللّه فليطعه‏)‏‏.‏ وهو أمر أوجبه هو على نفسه، لم يجب بالشرع ابتداء/ ثم إن الشارع بين أن البدل الأفضل يقوم مقام هذا، والأضحية والهدي المعين وجوبه من جنس وجوب النذر المعين‏.‏ فدل ذلك على أن إبداله بخير منه أفضل من ذبحه بعينه‏:‏ كالواجب بالشرع في الذمة، كما لو وجب عليه بنت مخاض فأدى بنت لبون، أو وجب عليه بنت لبون فأدى حقة، وفي ذلك حديث في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يبين أنه إذا أدى أفضل مما وجب عليه أجزأه‏.‏ رواه أبو داود في السنن وغيره‏.‏

قال أبو داود‏:‏ ثنا محمد بن منصور، ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عبد اللّه بن أبي بكر، عن يحيي بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن عمارة بن عمرو بن حزم، عن أبي بن كعب، قال‏:‏ بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقًا ، فمررت برجل، فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا بنت مخاض، فقلت له‏:‏ أدِّ بنت مخاض؛ فإنها صدقتك‏.‏ فقال‏:‏ ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها‏.‏ فقلت له‏:‏ ما أنا بآخذ ما لم أومر به، وهذا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منك قريب، فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت على فافعل، فإن قبله منك قبلته، وإن رده عليك رددته‏.‏ قال‏.‏ فإني فاعل، فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض على حتى قدمنا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، فقال‏:‏ يانبي اللّه، أتاني رسولك ليأخذ من صدقة مالى، وايم اللّه ما قام في مالى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا رسوله قط قبله، فجمعت له مالى، فزعم أن ما على إلا بنت مخاض، وذلك/ ما لا لبن فيه ولا ظهر، وقد عرضت عليه ناقة فتية عظيمة ليأخذها فأبي على، وها هي هذه قد جئتك بها يا رسول اللّه، خذها‏.‏ فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ذلك الذي عليك، فإن تطوعت بخير آجرك اللّه فيه، وقبلناه منك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فها هي ذه يا رسول اللّه، قد جئتك بها، فخذها، قال‏:‏ فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقبضها، ودعا له في ماله بالبركة‏.‏

وما في هذا الحديث من إجزاء سن أعلا من الواجب مذهب عامة أهل العلم الفقهاء المشهورين وغيرهم‏.‏ فقد ثبت أن إبدال الواجب بخير منه جائز بل يستحب فيما وجب بإيجاب الشرع وبإيجاب العبد‏.‏ ولا فرق بين الواجب في الذمة وما أوجبه معينا؛ فإنما وجب في الذمة وإن كان مطلقا من وجه فإنه مخصوص متميز عن غيره؛ ولهذا لم يكن له إبداله بدونه بلا ريب‏.‏

وعلى هذا، فلو نذر أن يقف شيئا فوقف خيرا منه كان أفضل، فلو نذر أن يبني للّه مسجدا وصفه، أو يقف وقفا وصفه‏.‏ فبني مسجداً خيرا منه، ووقف وقفا خيرا منه كان أفضل‏.‏ ولو عينه، فقال‏:‏ للّه على أن أبني هذه الدار مسجداً أو وقفها على الفقراء والمساكين‏.‏ فبني خيرا منها، ووقف خيراً منها، كان أفضل، كالذي نذر الصلاة بالمسجد الأقصى وصلى في المسجد الحرام، أو كانت عليه بنت مخاض فأدى خيرًا منها‏.‏

وقد تنازع الفقهاء في الواجب المقدر إذا زاده؛ كصدقة الفطر إذا أخرج أكثر من صاع‏.‏ فجوزه أكثرهم، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد/وغيرهم‏.‏ وروي عن مالك كراهة ذلك‏.‏ وأما الزيادة في الصفة فاتفقوا عليها، والصحيح جواز الأمرين؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏، وقد ثبت باتفاق أهل العلم ـ وهو في كتب الحديث الصحاح وغيرها وكتب التفسير والفقه ـ أن اللّه لما أوجب رمضان كان المقيم مخيرا بين الصوم وبين أن يطعم كل يوم مسكينا‏.‏ فكان الواجب هو إطعام المسكين، وندب ـ سبحانه ـ إلى إطعام أكثر من ذلك، فقال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَعلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ‏}‏، ثم قال ‏:‏ ‏{‏وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏، فلما كانوا مخيرين كانوا على ثلاث درجات‏:‏ أعلاها الصوم، ويليه أن يطعم في كل يوم أكثر من مسكين، وأدناها أن يقتصر على إطعام مسكين‏.‏ ثم إن اللّه حتم الصوم بعد ذلك وأسقط التخيير في الثلاثة‏.‏

فإن قيل‏:‏ ففي سنن أبي داود ‏:‏ ثنا عبد اللّه بن محمد النفيلي ثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، عن جهم بن الجارود، عن سالم بن عبد اللّه، عن أبيه‏:‏ قال أهدى عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ نجيبة، فأعطي بها ثلاثمائة دينار، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يارسول اللّه، إني أهديت نجيبة فأعطيت بها ثلاثمائة دينار أفأبيعها، وأشتري بثمنها بدنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏.‏ انحرها إياها‏)‏، فقد نهاه عن بيعها وأن يشتري بثمنها بدنا‏؟‏

/قيل‏:‏ هذه القضية ـ بتقدير صحتها ـ قضية معينة، ليس فيها لفظ عام يقتضي النهي عن الإبدال مطلقا، ونحن لم نجوز الإبدال مطلقا‏.‏ ولا يجوزه أحد من أهل العلم بدون الأصل، وليس في هذا الحديث أن البدل كان خيرا من الأصل، بل ظاهره أنها كانت أفضل‏.‏ فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل‏:‏ أي الرقاب أفضل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها‏)‏‏.‏وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ‏}‏ ‏[‏الحـج‏:‏ 32‏]‏، وقـد قيل‏:‏ مـن تعظيمها‏:‏ استحسانها واستسمانها والمغالاة في أثمانها‏.‏

وهذه النجيبة كانت نفيسة؛ ولهذا بذل فيها ثمن كثير، فكان إهداؤها إلى الله أفضل من أن يهدي بثمنها عدد دونها، والملك العظيم قد يهدي له فرس نفيسه فتكون أحب إليه من عدة أفراس بثمنها، فالفضل ليس بكثرة العدد فقط، بل قد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 92‏]‏، فما كان أحب إلى المرء إذا تقرب به إلى الله تعالى كان أفضل له من غيره، وإن استويا في القيمة؛ فإن الهدية والأضحية عبادة بدنية ومالية، ليست كالصدقة المحضة، بل إذا ذبح النفيس من ماله لله تعالى كان أحب إلى الله تعالى‏.‏ قال بعض السلف‏:‏ لا يهدي أحدكم لله تعالى ما يستحي أن يهديه لكريمه، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 267‏]‏، وقد قرب ابني آدم قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر‏.‏ وقد ذكر أن سبب ذلك أن أحدهما قرب نفيس ماله، والآخر قرب الدون من ماله‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ شيخُ الإسلام عن الواقف والناذر يوقف شيئًا، ثم يري غيره أحظ للموقوف عليه منه هل يجوز إبداله؛ كما في الأضحية‏؟‏

فأجاب‏:‏

وأما إبدال المنذور والموقوف بخير منه كما في إبدال الهدي، فهذا نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الإبدال للحاجة مثل أن يتعطل فيباع ويشتري بثمنه ما يقوم مقامه، كالفرس الحبيس للغزو إذا لم يمكن الانتفاع به للغزو فإنه يباع ويشتري بثمنه ما يقوم مقامه، والمسجد إذا خرب ما حوله فتنقل آلته إلى مكان آخر‏.‏ أو يباع ويشتري بثمنه ما يقوم مقامه‏:‏ أو لا يمكن الانتفاع بالموقوف عليه من مقصود الواقف فيباع ويشتري بثمنه ما يقوم مقامه‏.‏ وإذا خرب ولم تمكن عمارته فتباع العرصة، ويشتري بثمنها ما يقوم مقامها، فهذا كله جائز؛ فإن الأصل إذا لم يحصل به المقصود قام بدله مقامه‏.‏

والثاني‏:‏ الإبدال لمصلحة راجحة؛ مثل أن يبدل الهدي بخير منه، ومثل المسجد إذا بني بدله مسجد آخر أصلح لأهل البلد منه، وبيع الأول، فهذا ونحوه جائز عند أحمد وغيره من العلماء‏.‏ واحتج أحمد بأن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ نقل مسجد الكوفة القديم إلى مكان آخر، وصار الأول سوقًا للتمارين، فهذا إبدال لعرصة المسجد‏.‏

/وأما إبدال بنائه ببناء آخر، فإن عمر وعثمان بنيا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بناء غير بنائه الأول وزادا فيه، وكذلك المسجد الحرام، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة‏:‏ ‏(‏لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين‏:‏ بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرج الناس منه‏)‏‏.‏ فلولا المعارض الراجح لكان النبي صلى الله عليه وسلم يغير بناء الكعبة‏.‏ فيجوز تغيير بناء الوقف من صورة إلى صورة لأجل المصلحة الراجحة‏.‏

وأما إبدال العرصة بعرصة أخرى، فهذا قد نص أحمد وغيره على جوازه اتباعًا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث فعل ذلك عمر، واشتهرت القضية، ولم تنكر‏.‏

وأما ما وقف للغلة إذا أبدل بخير منه؛ مثل أن يقف دارًا، أو حانوتًا، أو بستانًا، أو قرية يكون مغلها قليلاً، فيبدلها بما هو أنفع للوقف، فقد أجاز ذلك أبو ثور وغيره من العلماء؛ مثل أبي عبيد بن حرمويه، قاضي مصر، وحكم بذلك‏.‏ وهو قياس قول أحمد في تبديل المسجد من عرصة إلى عرصة للمصلحة، بل إذا جاز أن يبدل المسجد بما ليس بمسجد للمصلحة بحيث يصير المسجد سوقًا فلأن يجوز إبدال المستغل بمستغل آخر أولي و أحرى‏.‏ وهو قياس قوله في إبدال الهدي بخير منه‏.‏ وقد نص على أن المسجد اللاصق بأرض إذا رفعوه وبنوا تحته سقاية، واختار ذلك الجيران، فعل ذلك‏.‏ لكن من أصحابه من منع إبدال المسجد والهدي والأرض الموقوفة، وهو قول الشافعي وغيره، لكن النصوص والآثار والقياس تقتضي جواز الإبدال للمصلحة‏.‏ والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ ـ رحمه الله تعالى ـ عمن أوقف وقفًا على الفقراء‏.‏ وهو من كروم يحصل لأصحابها ضرر به‏.‏ فهل يجوز أن يرجع فيه ويقف غيره‏؟‏ وهل إذا فعل يكون الاثنان وقفًا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا كان في ذلك ضرر على الجيران جاز أن يناقل عنه ما يقوم مقامه، ويعود الأول ملكًا، والثاني وقفًا، كما فعل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في مسجد الكوفة لما جعل مكانه مسجدًا صار الأول سوقًا للتماّرين‏.‏وَسُئِلَ عن حوض سبيل، وعليه وقف إسطبل، وقد باعه الناظر، ولم يشتر بثمنه شيئًا من مدة ست سنين‏.‏ فهل يجوز ذلك‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، أما بيعه بغير استبدال لما يقوم مقامه فلا ريب أنه لا يجوز‏.‏ وأما إذا باعه لتعطل نفعه واشتري بالثمن ما يقوم مقامه فهذا يجوز على الصحيح في قولي العلماء، وإن استبدل به خيرًا منه مع وجود نفعه ففيه نزاع‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ ـ رحمه الله ـ عن قرية بها عدة مساجد، بعضها قد خرب لا تقام الصلاة إلا في واحد منها، ولها وقف عليها كلها‏.‏ فهل تجب عمارة الخرب، وإقامة الجماعة في مسجد ثان‏؟‏ وهل يحل إغلاقها‏؟‏

فأجاب‏:‏

نعم، تجب عمارة المسجد إلى إقامة الصلاة فيه‏.‏ وكذلك ترتيب إمام في مسجد آخر يجب أن يفعل عند المصلحة والحاجة، ولا يحل إغلاق المساجد عما شرعت له‏.‏ وأما عند قلة أهل البقعة واكتفائهم بمسجد واحد مثل أن يكونوا حوله فلا يجب تفريق شملهم في غير مسجدهم‏.‏

 وَسُئِلَ أيضًا عن وقف على جماعة توفي بعضهم، وله شقيق، وولد، وللعلماء في ذلك خلاف مستفيض في مثله‏:‏ هل يخص الولد أم الأخ‏؟‏ فشهد قوم أنه يخص الولد دون الأخ بمقتضي شرط الواقف، مع عدم تحقيقهم الحد الموقوف، بحيث إنهم غيروا بعض الحدود عما هي عليه‏.‏ فهل يجوز لهم ذلك‏؟‏ وهل للحاكم أن يحكم/ بشهادتهم هذه من غير استفصال‏؟‏ وما الحكم في مجموع السؤال‏؟‏ أفتونا مفصلاً مأجورين‏.‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، الشهادة في الوقف بالاستحقاق غير مقبولة، وكذلك في الإرث من الأمور الاجتهادية؛ كطهارة الماء ونجاسته، ولكن الشاهد يشهد بما يعلمه من الشروط، ثم الحاكم يحكم في الشرط بموجب اجتهاده‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وَسُئِلَ عن وقف على رجل؛ ثم على أولاده فاقتسمه الفلاحون، ثم تناقل بعضهم حصته إلى جانب حصة شريكه فهل تنفسخ القسمة والمناقلة‏؟‏

فأجاب‏:‏

لا تصح قسمة رقبة الوقف الموقوف على جهة واحدة، لكن تصح قسمة المنافع، وهي ‏[‏المهايأة‏]‏‏.‏ وإذا كانت مطلقة لم تكن لازمة، لاسيما إذا تغير الموقوف فتجوز بغير هذه المهايأة‏.‏

 وَسُئِلَ عن بيعة بقرية، ولها وقف، وانقرض النصارى بتلك القرية، وأسلم من بقي منهم ـ فهل يجوز أن يتخذ مسجدًا‏؟‏

فأجاب‏:‏

نعم، إذا لم يبـق من أهل الذمـة الذين اسـتحقوا تلك أحـد، جـاز أن يتـخذ مسجدًا، لا سيما إن كانت ببر الشام، فإنه فتح عنوة‏.‏

/ وَسُئِلَ ـ رحمه الله ـ عن مسجد مجاور كنيسة مغلقة خراب ، سقط بعض جدرانها على باب المسجد، وعلى رحابه التي يتوصل منها ، وزالت بعض الجدار الذي انهدم ،وسقط على جدار المسجد، ويخاف على المسلمين من وقعها، ومن يصلي بالمسجد‏؟‏ وإذا آلت كلها للخراب هل تهدم‏؟‏

فأجاب‏:‏

نعم، إذا خيف تضرر المسجد وإيذاء المصلين فيه وجب إزالة ما يخاف من الضرر على المسجد وأهلـه‏.‏ وإذا لم يزل إلا بالهدم هـدمت، بل قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا قبلتان بأرض، ولا جزية على مسلم‏)‏‏.‏

وإذا كانت هذه في أرض فتحت عنوة وجب أن تزال، ولا تترك مجاورة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وَسُئِلَ ـ رحمه الله ـ عن مسجد ليس له وقف، وبجواره ساحة‏:‏ هل يجوز أن تعمل سكنًا للإمام‏؟‏ أفتونا‏؟‏

فأجاب‏:‏

يجوز ذلك والحالة هذه؛ فإن الساحة ليست من المسجد، كما ذكر‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ ـ رحمه الله ـ عمن هو في مسجد يأكل وقفه، ولايقوم بمصالحه‏.‏ وللواقف أولاد محتاجون‏:‏ فهل لهم تغييره ، وإقامة غيره، وأخذ الفائض عن مصلحة المسجد ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، إذا لم يقم بالواجب فإنه يغيره من له ولاية ذلك لمن يقوم بالواجب، إذا لم يتب الأول ويلتزم بالواجب‏.‏ وأما الفاضل عن مصلحة المسجد فيجوز صرفه في مساجد أخر، وفي المستحقين للصدقة من أقارب الواقف وجيران المسجد‏.‏

 وَسُئِلَ ـ رحمه الله ـ هل يجوز أن يبني خارج المسجد من رِيع الوقف مسكنًا ليأوي فيه أهل المسجد الذين يقومون بمصالحه‏؟‏

فأجاب‏:‏

نعم، يجوز لهم أن يبنوا خارج المسجد من المساكن ما كان مصلحة لأهل الاستحقاق لريع الوقف القائمين بمصلحته‏.‏

/ وَسُئِلَ ـ رحمه الله ـ عن مسجد أعلاه طبقة، وهو عتيق البناء، وأن الطبقة لم يسكنها أحد ولم ينتفع بها لكونها ساقطة ، وأنها ضرر على المسجد لثقلها عليه تخربه ، ولا له شيء يعمر منه‏:‏ فهل يجوز نقض الطبقة التي أعلاه، أو يغلق ذلك المسجد‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا كان نقض الطبقة مصلحة للمسجد فتنقض، وتصرف الأنقاض في مصالح المسجد، وإن أمكن أن يشتري بها ما يوقف عليه أو يصرف في عمارته أو عمارة وقفه، فعل ذلك‏.‏

 وَسُئِلَ عن رجل استأجر أرضًا موقوفة، وبني عليها ما أراد، ثم أوقف ذلك البناء وشرط أن يعطي الأجرة الموقوفة من ريع وقفه عليها، وحكم الحاكم بصحة الوقف على الشروط المذكورة في الوقف‏:‏ فهل يجوز نقض ذلك أم لا‏؟‏ وإذا أراد الواقف نقض الوقف بعد ثبوته ليدخل فيه عددًا آخر بوقف ثان‏:‏ هل يجوز ذلك‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا حكم الحاكم بصحة الوقف لم يجز فيه تغييره ولا تبديل شروطه‏.‏

/ وَسُئِلَ عن وقف على الفقراء والمساكين، وفيه أشجار زيتون وغيره يحمل بعض السنين بثمر قليل، فإذا قطعت وأبيعت يشتري بثمنها ملك يغل بأكثر منها‏:‏ فهل للناظر ذلك‏؟‏ وهل إذا طالبه بعض المستحقين للوقف يقطع الشجر ويبيعه ويقسم منه عليهم، فهل لهم ذلك‏؟‏ أم شراء الملك‏؟‏ وإذا تولي شخص فوجد من تقدمه غير شرط الواقف، فجهد في عمل شرط الواقف‏:‏ فهل له أن يأخذ ما جرت به العادة من الجامكية، بكونه لم يقدر أن يعمل بما شرطه الواقف، وهذا الناظر فقير لا مال له‏:‏ فهل له أن يأخذ من نسبة الفقراء، ويكون نظره تبرعًا‏؟‏ بينوا لنا ذلك‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، نعم، يجوز بيع تلك الأشجار، وأن يشتري بها ما يكون مغله أكثر؛ فإن الشجر كالبناء، وللناظر أن يغير صورة الوقف من صورة إلى صورة أصلح منها، كما غير الخلفاء الراشدون صورة المسجدين اللذين بالحرمين الشريفين، وكما نقل عمر بن الخطاب مسجد الكوفة من موضع إلى موضع، وأمثال ذلك‏.‏ ولا يقسم ثمن الشجر بين الموجودين؛ لأن الشجر كالبناء لا يختص بثمنه الموجودون، وليس هو بمنزلة الشجر والزرع والمنافع التي يختص كل أهل طبقة بما يؤخذ في زمنها منها‏.‏

/وأما الناظر فعليه أن يعمل ما يقدر عليه من العمل الواجب، ويأخذ لذلك العمل ما يقابله، فإن كان الواجب عشرة أجزاء من العوض المستحق أخذه، وإن كان يستحق الجميع على ما يعمله أخذ الجميع‏.‏ وله أن يأخذ على فقره ما يأخذه الفقير على فقره‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وَسُئِلَ عن تغيير صورة الوقف‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله أما ما خرج من ذلك عن حدود الوقف إلى طريق المسلمين، وإلى حقوق الجيران، فيجب إزالته بلا ريب‏.‏ وأما ما خرج إلى الطريق النافذ فلابد من إزالته، وأما إن كان خرج إلى ملك الغير فإن أذن فيه وإلا أزيل‏.‏

وأما تغيير صورة البناء من غير عدوان فينظر في ذلك إلى المصلحة، فإن كانت هذه الصورة أصلح للوقف وأهله أقرت‏.‏ وإن كان إعادتها إلى ما كانت عليه أصلح أعيدت‏.‏ وإن كان بناء ذلك على صورة ثالثة أصلح للوقف بنيت‏.‏ فيتبع في صورة البناء مصلحة الوقف، ويدار مع المصلحة حيث كانت‏.‏ وقد ثبت عن الخلفاء الراشدين ـ كعمر وعثمان ـ أنهما قد غيرا صورة الوقف للمصلحة بل فعل عمر بن الخطاب ما هو أبلغ من ذلك حيث حول مسجد الكوفة القديم فصار سوق التمارين، وبني لهم مسجدًا في مكان آخر‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ عمن ناصب على أرض وقف على أن للوقف ثلثي الشجر المنصوب، وللعامل الثلث‏:‏ فهل لمن بعده من النظار بيع نصيب الوقف من الشجر‏؟‏

فأجاب‏:‏

لا يجوز له بيع ذلك إلا لحاجة تقتضي ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وَسُئِلَ ـ رحمه الله ـ عن امرأة وقفت على ولديها دكاكين ودارًا، ثم بعد بنيها وبني أولادها يرجع على وقف مدرسة نور الدين الشهيد وغيره من المصارف الشرعية، ثم إن بعض قرائب المرأة تعدي وتحيل وباع الوقف، ثم إن الورثة حاكموا المشتري ورقم القاضي على شهود الكتاب، وهو صحيح ثابت‏.‏ فقام المشتري وأوقفها صدقة على خبز يصرف للمساكين وجعل الرئيس ناظرًا على الصدقة‏:‏ فهل يصح ذلك‏.‏ وإذا علم الرئيس العالم المتعبد أن هذا مغتصب، فهل يحل له أن يكون ناظرًا عليه، وما يكون‏؟‏

فأجاب‏:‏

بيع الوقف الصحيح اللازم الذي يحصل به مقصود الوقف من الانتفاع لا يجوز، ولا يصح وقف المشتري له، ولا يجوز للناظر على الوقف الثاني أن يصرفه إلى غير المستحقين قبل، ولا يتصرف فيه بغير مسوغ شرعي، سواء تصرف بحكم النظر الباطل، أو بغير ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ ـ رحمه الله ـ عن رجل بني حائطًا في مقبرة المسلمين، يقصد أن يحوز نفعه لدفن موتاه ، فادعي رجل أن له موتي تحت الحائط، وما هو داخل الحائط‏:‏ فهل يجوز له ذلك‏؟‏

فأجاب‏:‏

ليس له أن يبني على مقبرة المسلمين حائطًا، ولا أن يحتجر من مقبرة المسلمين ما يختص به دون سائر المستحقين‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وَسُئِلَ ـ رحمه الله ـ عن حمام أكثرها وقف على الفقراء والمساكين والفقهاء، وأن إنسانًا له حمامات بالقرب منها، وأنه احتال واشتري منها نصيبًا، وأخذ الرصاص الذي يخصه من الحاصل، وعطل الحمام وضار‏:‏ فهل يلزمه العمارة أسوة الوقف أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله ليس له أن يتصرف في الحمام المشتركة بغير إذن الشركاء ولا بإذن الشارع، ولا يستولي على شيء منها بغير إذن الشركاء، ولا يقسم /بنفسه شيئًا ويأخذ نصيبه منه، سواء كان رصاصًا أو غيره؛ ولا يغير بناء شيء منها، ولا يغير القدر ولا غيرها، وهذا كله باتفاق المسلمين‏.‏ وليس له أن يغلقها، بل يكري على جميع الشركاء إذا طلب بعضهم ذلك، وتقسم بينهم الأجرة‏.‏ وهذا مذهب جماهير العلماء؛ كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد‏.‏ وإذا احتاجت الحمام إلى عمارة لابد منها، فعلى الشريك أن يعمر معهم في أصح قولي العلماء‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وَسُئِلَ ـ رحمه الله ـ عن قناة سبيل، لها فايض، ينزل على قناة الوسخ، وقريب منها قناة طاهرة قليلة الماء‏:‏ فهل يجوز أن يساق ذلك الفائض إلى المطهرة، وهل يثاب فاعل ذلك‏؟‏ وهل يجوز منعه‏؟‏

فأجاب‏:‏

نعم، يجوز ذلك بإذن ولي الأمر، ولا يجوز منع ذلك إذا لم يكن فيه مصلحة شرعية، ويثاب الساعي في ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ ـ رحمه الله ـ عن الوقف الذي يشتري بعوضه ما يقوم مقامه، وذلك مثل الوقف الذي أتلفه متلف، فإنه يؤخذ منه عوضه يشتري به ما يقوم مقامه؛ فإن الوقف مضمون بالإتلاف باتفاق العلماء، ومضمون باليد‏.‏ فلو غصبه غاصب تلف تحت يده العادية فإن عليه ضمانه باتفاق العلماء، لكن قد تنازع بعضهم في بعض الأشياء هل تضمن بالغصب كالعقار‏.‏ وفي بعضها هل يصح وقفه كالمنقول‏؟‏ ولكن لم يتنازعوا أنه مضمون بالإتلاف باليد كالأموال، بخلاف أم الولد، فإنهم وإن اتفقوا على أنها مضمونة بالإتلاف، فقد تنازعوا هل تضمن باليد أو لا‏؟‏ فأكثرهم يقول‏:‏ هي مضمونة باليد؛ كمالك، والشافعي، وأحمد‏.‏ وأما أبو حنيفة فيقول‏:‏ لا تضمن باليد‏.‏ وضمان اليد هو ضمان العقد، كضمان البايع تسليم المبيع، وسلامته من العيب، وأنه بيع بحق‏.‏ وضمان دركه عليه بموجب العقد وإن لم يشترطه بلفظه‏.‏

ومن أصول الاشتراء ببدل الوقف؛ إذا تعطل نفع الوقف؛ فإنه يباع ويشتري بثمنه ما يقوم مقامه في مذهب أحمد، وغيره‏.‏ وهل يجوز مع كونه مغلاً أن يبدل بخير منه‏؟‏ فيه قولان في مذهبه‏.‏ والجواز مذهب أبي ثور وغيره‏.‏

/والمقصود أنه حيث جاز البدل، هل يشترط أن يكون في الدرب أو البلد الذي فيه الوقف الأول‏.‏ أم يجوز أن يكون بغيره إذا كان ذلك أصلح لأهل الوقف؛ مثل أن يكونوا مقيمين ببلد غير بلد الوقف، وإذا اشتري فيه البدل كان أنفع لهم؛ لكثرة الريع، ويسر التناول‏؟‏ فنقول‏:‏

ما علمت أحدًا اشترط أن يكون البدل في بلد الوقف الأول، بل النصوص عند أحمد وأصوله وعموم كلامه وكلام أصحابه وإطلاقه يقتضي أن يفعل في ذلك ما هو مصلحة أهل الوقف؛ فإن أصله في هذا الباب مراعاة مصلحة الوقف، بل أصله في عامة العقود اعتبار مصلحة الناس؛ فإن الله أمر بالصلاح، ونهي عن الفساد وبعث رسله بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها‏:‏ ‏{‏وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏، وقال شعيب‏:‏ ‏{‏إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 35‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 11، 12‏]‏‏.‏

وقد جوز أحمد بن حنبل إبدال مسجد بمسجد آخر للمصلحة، كما جوز تغييره للمصلحة‏.‏ واحتـج بـأن عمـر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أبدل مسجد الكوفـة القـديم بمسجد آخر، وصار المسجد الأول سوقًا للتمارين‏.‏ وجوز أحمد إذا خرب المكان أن ينقل المسجد إلى قرية أخرى، بل ويجوز، في أظهر الروايتين عنه‏:‏ أن يباع ذلك المسجد ويعمر بثمنه مسجدًا آخر في قرية أخرى إذا لم يحتج إليه في القرية الأولي‏.‏ فاعتبر المصلحة بجنس المسجد، وإن كان/ في قرية غير القرية الأولى؛ إذ كان جنس المساجد مشتركة بين المسلمين والوقف على قوم بعينهم أحق بجواز نقله إلى مدينتهم من المسجد؛ فإن الوقف على معينين حق لهم، لا يشركهم فيه غيرهم‏.‏ وغاية ما فيه أن يكون بعد انقضائهم لجهة عامة؛ كالفقراء، والمساكين‏.‏ فيكون كالمسجد‏.‏ فإذا كان الوقف ببلدهم أصلح لهم كان اشتراء البدل ببلدهم هو الذي ينبغي فعله لمتولي ذلك‏.‏

وصار هذا كالفرس الحبيس الذي يباع ويشتري بقيمته ما يقوم مقامه إذا كان محبوسًا على ناس ببعض الثغور، ثم انتقلوا إلى ثغر آخر، فشراء البدل بالثغر الذي هو فيه مضمون أولي من شرائه بثغر آخر‏.‏ وإن كان الفرس حبيسًا على جميع المسلمين فهو بمنزلة الوقف على جهة عامة؛ كالمساجد، والوقف على المساكين‏.‏

ومما يبين هذا‏:‏ أن الوقف لو كان منقولاً؛ كالنور، والسلاح، وكتب العلم؛ وهو وقف على ذرية رجل بعينهم، جاز أن يكون مقر الوقف حيث كانوا، بل كان هذا هو المتعين، بخلاف ما لو أوقف على أهل بلد بعينه‏.‏

لكن إذا صار له عوض، هل يشتري به ما يقوم مقامه إذا كان العوض منقولاً‏؟‏ فأن يشتري بهذا العوض في بلد مقامهم أولي من أن يشتري به في مكان العقار الأول، إذا كان ذلك أصلح لهم؛ إذ ليس في تخصيص مكان العقار/الأول مقصود شرعي، ولا مصلحة لأهل الوقف‏.‏ وما لم يأمر به الشارع ولا مصلحة فيه للإنسان فليس بواجب ولا مستحب‏.‏ فعلم أن تعيين المكان الأول ليس بواجب ولا مستحب لمن يشتري بالعوض ما يقوم مقامه، بل العدول عن ذلك جائز‏.‏ وقد يكون مستحبًا، وقد يكون واجبًا إذا تعينت المصلحة فيه‏.‏ والله أعلم‏.‏